“Made In Morocco”.. مسيرة خضراء تخترق الصحراء

هبة بريس ـ ياسين الضميري

قبل أشهر، لاح في الأفق حديث عن بعض القرارات التي اتخذتها سلطات موريتانيا بخصوص الشاحنات المغربية التي تعبر يوميا نحو الجنوب محملة بشتى أنواع الخضر و الفواكه لعديد دول القارة، و هي القرارات التي تم تصحيحها لاحقا بسبب الآثار التي خلفتها و التي جعلت أسعار عدد من المواد و السلع الاستهلاكية تتضاعف بشكل كبير و تؤثر على القدرة الشرائية للموريتانيين و لباقي سكان الدول المستوردة للمنتجات المغربية بالقارة الإفريقية.

هذا الأمر، دفعنا في هبة بريس لضرورة استيقاء بعض المعطيات الرسمية بخصوص التبادلات التجارية قبل السفر برا من المغرب لموريتانيا و تتبع مسار الشاحنات التي تتنقل يوميا من سهول المغرب الخصبة لأسواق موريتانيا و باقي دول القارة.

يقوم المغرب بتصدير عدد من المنتجات الزراعية إلى موريتانيا وعبرها إلى دول غرب إفريقيا، مع العلم أن كميات هامة من البضائع المغربية الموجهة لغرب القارة يتم بيعها داخل الأسواق الموريتانية و من تم إعادة تسويقها و نقلها لتلك الدول.

إحصائيات رسمية مغربية توصلنا بها من سفارة المملكة المغربية في نواكشوط تؤكد أن المبادلات التجارية بين المغرب وموريتانيا شهدت تسجيل أرقام غير مسبوقة من خلال تجاوز قيمتها لحاجز 300 مليون دولار.

وأشارت ذات المعطيات إلى أن نسبة المبادلات التجارية بين البلدين حققت نموا كبيرا بلغت 58 في المائة، ما يعزز موقع ومكانة المملكة كأول مورد للسوق الموريتاني على المستوى الأفريقي، حيث تشكل الواردات الموريتانية من المغرب ما يناهز %50 من مجمل وارداتها من القارة الأفريقية.

وعلى المستوى المغاربي، تشكل الواردات الموريتانية من السوق المغربية أكثر من %73 من مجمل الواردات الموريتانية من باقي الدول المغاربية.

أما على مستوى بنية الصادرات المغربية نحو موريتانيا، فإن %80 منها تتكون من ثلاث فئات، وهي المواد الغذائية والزراعية، والمواد المصنعة وآلات ومعدات النقل، وتشكل الخضر والفواكه حوالي % 25 من حجم هذه الصادرات.

هاته الأرقام تؤكد و بجلاء أن ما يصدره المغرب لموريتانيا يوميا ليس مجرد سلع و أرقام و حسب، و إنما نبض حياة يساهم في ضمان الأمن الغذائي لعشرات الملايين من الشعوب و خاصة في دول غرب القارة التي تعاني من الجفاف و غياب الأراضي الزراعية الخصبة القادرة على توفير حاجيات مواطنيها الأساسية.

من إنزكان إلى الكركرات.. طريق تنبض بالحياة

بوشعيب الدكالي، شاب في أواخر عقده الرابع، قابلناه في سوق إنزكان الشهير للخضر و الفواكه، هذا الرجل الذي ترك أسرته المكونة من ابنتين و طفل صغير بالكاد بلغ سنته الثانية في سهول خميس الزمامرة الخصبة، و أطلق العنان لمحرك شاحنته الكبيرة الحجم التي تعودت على الطريق التي تربط المغرب بعمقه الإفريقي محملة كل مرة بنوع ما من الخضر و الفواكه.

لم يتردد الدكالي في قبول طلبنا بمرافقته في رحلته التي ستقوده من ضواحي أكادير إلى نواكشوط الموريتانية كوجهة أولى ثم السنغال و غينيا، شرطه الأوحد “مابغيتش نبان فشي صورة”، مضيفا: “راه ماعارفش شحال نقدرو نبقاو في الطريق، و الطريق قاسحة شوية، إيلا فك مايصبر على التكرفيص طلع مرحبا بيك”.

الطريق السريع باتجاه الداخلة عموما رائعة و خصوصا بعد انتهاء الأشغال من أغلب المقاطع الطرقية، أكثر من ألف كيلومتر قطعناها بشكل متفرق مع أكثر من توقف اضطراري في محطات الاستراحة المجهزة بكل وسائل الراحة المتواجدة على طول المسار.

مسامع بوشعيب لم تمل من أنغام الشعبي و خصوصا “كمنجة ولد الحوات”، و مع كل مقطع موسيقي كان السائق يدندن بكلمات بعضها يتماشى و كلمات الأغنية و أخرى غير مفهومة، الشعبي رفيق سائقي الشاحنات كما يقول الدكالي و مؤنسهم في تضاريس الصحراء و طرقاتها التي لا تنتهي و خاصة أن أغلب السائقين يختارون السياقة ليلا.

 

“معبر الكركرات” الحدودي يلوح في الأفق، بعد ساعات طوال من السياقة، قرر بوشعيب المبيت في فندق يتواجد بأمتار قليلة فقط عن نقطة العبور لدولة موريتانيا، هنا في الكركرات، كل شيء متوفر، مسجد، وكالة بنكية و أخرى لتحويل و استلام الأموال، مقاهي، مطاعم، فندق، ورشات ميكانيك، و غيرهم من المرافق التي قد يحتاجها العابرون للحدود.

و لأن سائقي الشاحنات أشبه بالرُّحل، يتجولون من دولة لأخرى، فطبيعي أن تجد لديهم كل ما يلزم للطبخ من “بوطة” و “الكاميلة” و “البراد”، لنختم الليلة المتعبة و نحن نتشارك رفقة سائقين آخرين صحنا من المرق الذي من شدة الجوع و الإرهاق قد أصفه بأنه ألذ من أطباق الوالدة.

آذان الصبح كان بمثابة منبه للقيام و الاستعداد لشد الرحال، و قبل ذلك كان ضروريا ارتشاف كؤوس من الشاي أو “الدكة” كما يحلو لبوشعيب تسميتها، “نْتِيِّيو و نتوكلو على مولانا راه مع تسعود كيحلو الديوانة”، يقول السائق.

 

"Made In Morocco".. مسيرة خضراء تخترق الصحراء

تصطف المئات من الشاحنات أمام معبر الكركرات، بنظام و انتظام، ينتظرون دورهم للعبور من الحاجز الجمركي المغربي، الأمر لا يأخذ وقتا كبيرا، إجراءات سلسة و تعامل أمني مهني، عشرة دقائق كأقصى تقدير لتجد نفسك في الطريق الفاصل بين موريتانيا و المغرب.

من الكركرات إلى نواكشوط.. مسيرة خضراء تخترق الصحراء

الطريق من معبر الكركرات إلى العاصمة الموريتانية نواكشوط أشبه بمغامرة مفتوحة على الصحراء، حيث تمتد مئات الكيلومترات من الفراغ المهيب، والكثبان الرملية التي تتغير ملامحها مع كل هبة ريح، هذا المسار الحيوي و بمجرد أن تشرع فيه انطلاقا من الكركرات، تبدأ ملامح الطريق تتغير، لم يعد هناك أي أثر للحياة المدنية، فقط شريط من الإسفلت المتهالك يخترق صحراء ممتدة بلا نهاية، الرمال تزحف أحيانا على الطريق، مما يجبر السائقين على المناورة بحذر، توقفنا في نقطة تفتيش تابعة للدرك الموريتاني، حيث تم تفحص الأوراق بسرعة قبل أن يسمح لنا بالمرور.

أثناء الرحلة، كان بوشعيب الدكالي يروي قصصا عن تجاربه في هذا الطريق، عن السائقين الذين يواجهون أعطالا في منتصف اللامكان، وعن قوافل الشاحنات التي تتحرك معا أحيانا كإجراء احترازي في مواجهة قطاع الطرق المحتملين، كانت كلماته مترافقة مع صمت الصحراء المطبق، حيث لا وجود لمحطات وقود أو استراحات، فقط محطات تفتيش متفرقة وخيام متناثرة هناك و هناك للرعاة.

"Made In Morocco".. مسيرة خضراء تخترق الصحراء

بعد ساعات من القيادة، توقفنا عند نقطة استراحة غير رسمية، مجرد مساحة مفتوحة حيث تتجمع بعض الشاحنات، هنا، التقى السائقون لتبادل الأخبار، واحتساء الشاي الصحراوي القوي الذي أعده أحد “الشوافرية”، جلسنا على الرمال تحت سماء مرصعة بالنجوم، وسط حديث عن تحديات الطريق، والمنافسة مع الشاحنات القادمة من دول أخرى مثل السنغال ومالي.

مع اقترابنا من نواكشوط، بدأت ملامح الحياة تعود تدريجيا، ازداد عدد السيارات والدراجات، وانتشرت أكواخ خشبية تبيع مختلف البضائع، عند دخول المدينة، شعرت بأننا دخلنا إلى عالم آخر، حيث الشوارع تعج بالحركة والأسواق تمتلئ بالحياة، توقفت الشاحنة في سوق الجملة، حيث سيتم تفريغ الحمولة وبيعها للتجار المحليين.

لقد كانت الرحلة من الكركرات إلى نواكشوط أكثر من مجرد سفر على متن شاحنة، كانت تجربة إنسانية تكشف عن واقع التجارة الحدودية، عرفتني بحياة السائقين الذين يعبرون هذه المسافة الشاقة يوميا، رحلة عبرت فيها الصحراء، لكنني أيضا عبرت إلى عالم مختلف، مليء بالتحديات والقصص التي تستحق أن تروى، و من هاته القصص سوق المغرب في قلب موريتانيا.

سوق “المغرب” بنواكشوط.. من الحقول المغربية لموائد العائلات الموريتانية

بعد رحلة شاقة عبر الصحراء، وجدت نفسي في قلب العاصمة نواكشوط، وتحديدا في سوق “المغرب”، وهو الإسم الذي يطلقه الموريتانيون على سوق الجملة للخضر والفواكه، نظرا لكون معظم المنتجات الطازجة الواردة إليه تأتي من المملكة المغربية.

منذ اللحظة الأولى لدخولي السوق، أدهشني النشاط الكبير الذي يعم المكان، عشرات التجار يتنقلون بين الصناديق، وعربات محملة بالطماطم، البطاطس، الجزر و البرتقال، بينما يعلو صوت المساومات بين الباعة والزبائن، بدا واضحا أن المغرب يلعب دورا حيويا في تزويد موريتانيا بالمنتجات الزراعية، خاصة في ظل الظروف المناخية القاسية التي تجعل الزراعة المحلية غير قادرة على تلبية الطلب المتزايد.

سوق “المغرب” في نواكشوط، هو سوق الجملة الرئيسي للخضر والفواكه في العاصمة، حيث تصل البضائع الطازجة يوميا من المغرب، لتوزع على مختلف الأسواق والمحلات التجارية في المدينة ومنها لباقي البلاد و الدول المجاورة، هذا المكان ليس مجرد سوق، بل هو شريان اقتصادي يربط بين المغرب وموريتانيا، ويعكس متانة العلاقة التجارية بين البلدين.

"Made In Morocco".. مسيرة خضراء تخترق الصحراء

عند دخولي السوق، استقبلتني روائح الفواكه الناضجة والخضروات الطازجة، ممزوجة برائحة التراب الرطب نتيجة لرش المياه على الأرض لتخفيف الغبار، الباعة يروجون لبضائعهم بأصوات مرتفعة، فيما تتنقل العربات المحملة بالصناديق الخشبية بين الممرات الضيقة.

أكوام من الطماطم المغربية الحمراء اللامعة مكدسة على منصات خشبية، إلى جانب البطاطس الذهبية، الجزر البرتقالي، والفلفل الأخضر والأحمر، على الجانب الآخر، كانت أكوام البرتقال، التفاح، والموز تجذب انتباه الزبائن الذين يتفاوضون بمهارة مع الباعة.

 

"Made In Morocco".. مسيرة خضراء تخترق الصحراء

السوق مقسم إلى عدة أجزاء، حيث تخصصت بعض المحلات في بيع الخضر فقط، بينما كانت هناك مساحات مخصصة للفواكه، إضافة إلى نقاط البيع بالجملة حيث تتجمع الشاحنات القادمة من المغرب لتفريغ حمولتها.

في ركن من السوق، يجتمع مجموعة من التجار المغاربة الذين وقفوا بجانب شاحنة تحمل لوحة تسجيل من أكادير، كان أحدهم، ويدعى مجيد، مسؤولا عن توزيع البضائع القادمة من المغرب، أخبرني أنه يعمل في هذا المجال منذ أكثر من عشر سنوات، وأنه يقضي معظم وقته بين أكادير ونواكشوط، حيث يشرف على تسليم الشحنات والتفاوض مع التجار الموريتانيين.

يقول مجيد: “نحن نحمل الخضر والفواكه من سوق إنزكان بالمغرب، ونقطع حوالي 2000 كلم عبر الصحراء للوصول إلى هنا، الطريق صعب، لكن السوق في نواكشوط مربح، والتجار هنا يفضلون البضائع المغربية لأنها طازجة وجودتها مضمونة”.

و في سؤال له عن أكثر المنتجات طلبا، أجاب: “الطماطم والبطاطس تأتي في المقدمة، ثم الجزر والبصل، وبالنسبة للفواكه، البرتقال والتفاح المغربيان يحظيان بشعبية كبيرة هنا في موريتانيا”.

"Made In Morocco".. مسيرة خضراء تخترق الصحراء

زرنا تاجرا موريتانيا يدعى محمد الأمين ولد عبد الله، وهو صاحب محل بيع بالجملة في السوق، فأوضح لنا أن موريتانيا تعتمد بشكل كبير على الخضر والفواكه المغربية، خاصة أن الزراعة المحلية لا تكفي لتغطية احتياجات السوق.

و أضاف ذات التاجر: “بدون المغرب، ستكون أسعار الخضر والفواكه مرتفعة جدا هنا، نحن نحصل على البضائع يوميا، مما يضمن استقرار السوق، وحتى في المواسم الصعبة، يستمر المغرب في تزويدنا بالإمدادات و بما نحتاج، بل و حتى في فترة كورونا لم يتخل المغرب عنا و كنا دائما نتوصل بالمنتجات”.

"Made In Morocco".. مسيرة خضراء تخترق الصحراء

تاجر آخر، يدعى الحاج المختار، صرح قائلا: “الجودة المغربية لا تقارن، والمغاربة يفهمون متطلبات السوق هنا، فهم يرسلون لنا البضائع التي تناسب الذوق الموريتاني والسوق المحلية”.

تاجر آخر و هو رجل خمسيني يدعى الحاج مولود، أكد لنا أن “أكثر من 80% من الخضر والفواكه التي تباع هنا قادمة من المغرب”، وأضاف: “نحن نعتمد على الشاحنات التي تصل يوميا من أكادير وإنزكان، فهي تأتينا بأجود المنتجات وبأسعار تنافسية”.

"Made In Morocco".. مسيرة خضراء تخترق الصحراء

لا يقتصر الأمر على مجرد تجارة بين بلدين جارين، بل يشكل المغرب ركيزة أساسية في الأمن الغذائي لموريتانيا، ففي ظل قلة الأراضي الصالحة للزراعة في هذا البلد، واعتمادها الكبير على الاستيراد، أصبحت الأسواق المحلية تعتمد بشكل شبه كلي على السلع المغربية.

أحد المستوردين الموريتانيين، و يدعى المختار ولد يمو، أكد أن المغرب ليس فقط المصدر الرئيسي للخضر والفواكه، بل يوفر أيضا منتجات ذات جودة عالية مقارنة بتلك القادمة من دول أخرى، و أضاف: “نحن نفضل المنتجات المغربية لأنها طازجة، والمسافة بين البلدين قصيرة نسبيا، مما يعني أن الخضر والفواكه تصل بجودة عالية مقارنة بتلك القادمة من بلدان أخرى”.

"Made In Morocco".. مسيرة خضراء تخترق الصحراء

و رغم الدور الكبير الذي يلعبه المغرب في تأمين حاجيات السوق الموريتاني، تواجه هذه التجارة تحديات عديدة، أبرزها حسب التجار التكاليف اللوجستيكية المرتفعة بسبب طول الرحلة التي تقطعها الشاحنات عبر الصحراء و إجراءات الجمارك الموريتانية والمعابر الحدودية التي قد تؤدي إلى تأخير وصول البضائع، فضلا على تقلبات الأسعار الموسمية التي تؤثر على استقرار السوق.

لكن المغرب نجح في إيجاد حلول لهذه التحديات من خلال تطوير البنية التحتية اللوجستيكية وتحسين العلاقات التجارية بين البلدين، مما جعل تدفق المنتجات أكثر سلاسة واستدامة.

 

"Made In Morocco".. مسيرة خضراء تخترق الصحراء

إلى جانب مساهمته في الأمن الغذائي، يدعم المغرب أيضا الاقتصاد الموريتاني من خلال توفير فرص عمل لآلاف التجار، السائقين، والعمال الذين يعتمدون على هذه السلسلة التجارية، من تحميل الشاحنات في إنزكان، مرورا بعبورها الكركرات، وصولا إلى توزيعها في الأسواق الموريتانية.

مع اقتراب الظهيرة، بدأ السوق يهدأ قليلا، حيث تم بيع جزء كبير من البضائع، وبدأت الشاحنات الفارغة تستعد للعودة إلى المغرب لتحميل دفعات جديدة، غادرت السوق وأنا أحمل معي صورة واضحة عن الدور المحوري الذي يلعبه المغرب في تزويد موريتانيا بالخضر والفواكه، ليس فقط كعملية تجارية، بل كجزء من شراكة اقتصادية قوية تضمن الأمن الغذائي لجارته الجنوبية.

"Made In Morocco".. مسيرة خضراء تخترق الصحراء

في نهاية جولتنا في سوق “المغرب”، أدركت أن ما يجمع المغرب وموريتانيا ليس مجرد تجارة عابرة، بل علاقة اقتصادية استراتيجية قائمة على التكامل، حيث يساهم المغرب في سد الفجوة الغذائية لموريتانيا، بينما تستفيد الشركات والمزارعون المغاربة من سوق كبير ومتعطش للمنتجات الطازجة، إنها شراكة تمتد على طول الطريق من الحقول المغربية إلى موائد العائلات الموريتانية.

كسكس موريتاني بخضر مغربية.. فخر و شهية مفتوحة

تصادف وجودي هنا و صلاة الجمعة، كنت قد سمعت عن مسجد الحسن الثاني في نواكشوط، وهو أحد المساجد التي بناها المغرب في موريتانيا، ويحمل ملامح العمارة المغربية الأندلسية، عند وصولي لهاته المعلمة المغربية في قلب موريتانيا، شدني تصميمه الأنيق، بمئذنته الشامخة وزخارفه التي تعكس الإرث الروحي المشترك بين البلدين.

دخلت المسجد، فوجدت صفوف المصلين من مختلف الأعمار وقد امتلأت، لفت انتباهي تأثر الخطبة بالطرح الديني الوسطي، حيث تحدث الخطيب عن أهمية التكافل الاجتماعي، وهي قيمة متجذرة في المجتمع الموريتاني، و بعد الصلاة، فوجئت بعدد من الموريتانيين يبادلونني المصافحة الحارة و التحايا و هو الحال ذاته ما بين المصلين، في تعبير صادق عن الروابط الأخوية العميقة.

"Made In Morocco".. مسيرة خضراء تخترق الصحراء

بعد الصلاة، كنت مدعوا لتناول وجبة الغداء في أحد المنازل الموريتانية التقليدية، وكما هو متوقع في يوم الجمعة، كان الطبق الرئيسي هو “الكسكس”، لكن بنسخة موريتانية تختلف عن تلك التي اعتدت عليها في المغرب.

يحضر الكسكس الموريتاني عادة من دقيق الذرة أو القمح، ويتميز بحجم حباته الكبيرة مقارنة بالكسكس المغربي، كان الطبق مزينا بقطع اللحم الطرية، ومطهوا في مرق غني بالنكهات، يعطره الهيل والقرنفل والتوابل المحلية، المذاق كان مميزا، يجمع بين البساطة والعمق، ليعكس بذلك أسلوب العيش البسيط لكن الغني بثقافته في موريتانيا.

و في خضم التهام حبات الكسكس، تبادلت و صاحب البيت الحديث عن مميزات الكسكس الموريتاني و نقاط التشابه و الاختلاف بينه و بين نظيره المغربي، قبل أن يعلق بعبارة: “إنت تاكل كسكس موريتاني في موريتانيا لكن بخضر مغربية”، و هنا لا يمكن وصف درجة الفخر التي قد يحسها أي مغربي في مكاني آنذاك، لدرجة أن شهيتك ستفتح و لو كانت البطن ممتلئة.

"Made In Morocco".. مسيرة خضراء تخترق الصحراء

رحلتي إلى نواكشوط لم تكن مجرد زيارة عابرة، بل كانت فرصة لاكتشاف جانب آخر من الروابط الثقافية بين المغرب وموريتانيا، في كل تفصيل، من العمارة إلى الطعام، ومن اللقاءات الودية إلى الطقوس الدينية، شعرت بأنني لم أكن في بلد غريب، بل وسط إخوة يشتركون معنا في التاريخ والتقاليد.

نعم، لقد كانت تجربة أثبتت أن الحدود السياسية لا يمكنها أن تمحو امتداد الروابط الثقافية والدينية بين الشعوب، وأن السفر ليس مجرد انتقال جغرافي، بل هو رحلة لاكتشاف الذات من خلال الآخر.

“مايد إن موركو”.. أكثر من مجرد شعار

شارفت رحلتي القصيرة على الانتهاء في موريتانيا و نال التعب مني، فقررت العودة جوا من نواكشوط لمطار محمد الخامس بالدار البيضاء بعدما كان البرنامج المسطر سلفا أن أواصل الرحلة مع سائقي الشاحنات المغربية لدكار السنغالية، و بالمناسبة كان الله في عون كل هؤلاء السائقين، رحلة واحدة لم أستطع تحملها و إكمالها و هم الذين يؤمنونها رواحا و إيابا على مدار الأسابيع و الأشهر و السنين.

و في رحلة العودة لم تتوقف ذاكرتي عن استرجاع أبرز لحظات الزيارة لبلد المليون شاعر، أعجبني التمسك الجميل للموريتانيين بأداة الصلاة في قلب الصحراء، وأمام القنصليات، وبوابات محلات البيع، تشعر أن تدينهم صادق أكثر من الموت.

موريتانيا، البلد الشقيق، الساحر بطيبة أهله، وشغفهم بالشعر، فعلا ما أكثر الأشياء الساحرة في هذه الأرض الطيبة، العديد من اللهجات واللغات كالحسانية والفرنسية و لغة اللووف، بلد تجتمع فيه جنسيات أفريقية مختلفة من موريتانيا و السنغال و المغرب و مالي و غامبيا و غيرهم، عوامل تعطي رونقا لنواكشوط، وبعدا إفريقيا عميقا وأصيلا لا نلمسه عادة في بلدان شمال إفريقيا.

في المقابل، هي دولة تختزل كل تناقضات أفريقيا و أوجاعها الدفينة، فرغم الثروة السمكية والمعدنية الهائلتين، تكشف جولة صغيرة في شوارع نواكشوط “تأخر” نسبيا للبلد، الذباب والحشرات تملأ المدينة، برك مائية عملاقة تغلق العديد من الشوارع، والأنكى، انعدام سيارات أجرة، وتعويضها بسيارات مهترئة، أما بعض الحافلات، فهي بدون نوافذ، صدئة، وعارية تداعب الريح.

هناك تناقض صارخ بين العدد الهائل للسيارات رباعيات الدفع والسيارات المهترئة والمحطمة، مثل حلم أزلي يلفظ أنفاسه الأخيرة، الأثرياء يرتدون “دراعات” جميلة ويمتطون سيارات فارهة، وبعض الأطفال والمراهقين غارقون في أسمالهم، صحيح أن التفاوتات الطبقية لا تسلم منها حتى أغنى دول العالم، لكنها في نواكشوط تبدو صارخة ومؤلمة.

من أكثر الأشياء المدهشة هنا في موريتانيا، تعامل السكان مع عملتهم، فإن قال لك مواطن موريتاني 100 أوقية فهو يقصد 1000 أوقية، هذا التفصيل جعل من تبضعي في نواكشوط تمرينا عبثيا في الرياضيات.

و في خضم كل ذلك، تبقى العلاقة بين موريتانيا و المغرب أكثر من مجرد حدود مشتركة و تجارة و قوافل سلع تربط بين البلدين، فما يجمعنا أكبر بكثير من كل ذلك، و لعل أبرز ما يجمعنا التاريخ و الحاضر و المستقبل المشترك، و لهذا فليس غريبا أن يفتح الموريتانيون أبواب منازلهم لكل المغاربة ترحابا و كرما، و ليس غريبا أن يتقاسم المغاربة مع الجار الجنوبي الصديق و الشقيق كل ما تنتجه أراضينا من خيرات تحت شعار “مايد إن موروكو” في خدمة إفريقيا لنعيش معا…



قراءة الخبر من المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى